كان ممن تأثرت أخلاقهم وأفكارهم بالطفرة المادية ... فأصبح المال محبوبه الأول.. وأعمت المادة بصيرته فلم يعد يبصر إلا من خلال ثقوبها الضيقة.. وأصبح المال ميزانه الذي يزن به الأمور.. وكانت له ابنة بلغت مبلغ الزواج .. وأخذ الخطاب على اختلاف مراتبهم يدقون أبوابه راغبين في الزواج من ابنته.
ولكنه كان يردهم بحجج واهية ظاهرها المصلحة وباطنها المادة.. مع أن من هؤلاء الخطاب أصحاب دين وخلق .. ممن أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بهم ... ولكن كان لسان حاله يقول: أين الذي يدفع أكثر .. والمنافع والمصالح من ورائه أكبر؟
ومرت الأيام .. وظل على أحلامه المادية .. ومرت الأعوام .. وترك قطار الزمن ابنته في محطة العنوسة .. وغادر الخطاب بابه واتجهوا لغيره ممن لديهم بقية دين وخلق ..... ممن يرفضون بيع بناتهم كالنعاج في الحراج.
وذبل شباب ابنته .. وانطفأت نضارتها.. وذوى عودها .. ومع الأيام دب السقم في جوانحها .. وأصيبت بداء عضال أضنى الأطباء شفاؤه .. ونقلت إلى المستشفى ... وحانت لحظاتها الأخيرة .. وأخبر والدها بالأمر .. فأفاق من عالمه المادي وأتى مسرعاً .. ليرى ابنته في ثوب المرض .. بعد أن حرمها منذ زمن من ثوب الزفاف .. نظر إليها مشفقاً عليها .. نظرت إليه بعينين قد اغرورقت بالدمع .. وأخذت تتمتم وتحرك شفتيها ... دنا منها ليسمع ما تريد البوح به في لحظتها الأخيرة .. فوجدها تطلب منه أن يقول آمين .. فقال: آمين .. ثم تمتمت مرة أخرى، وطلبت منه أن يقول آمين .. فقال: آمين .. ثم فعلت ذلك مرة ثالثة، وطلبت منه أن يقول آمين .. فقالها.
وبعد فترة من الصمت المشحون بالأسى .. سألها برفق عن الدعاء الذي طلبت منه أن يؤمن عليه .. فانحدرت دموعها الأخيرة .. وأجابت بعد صمت بصوت واهن مليئ بالأسى .. لقد دعوت الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج.
وطوى القبر في باطنه مأساة دامية .. وبقي المجرم الذي أعمى الجشع بصيرته .. بقي يندب نفسه وابنته .. ويعض أصابع الندم .. ولات ساعة مندم .. هذه ماساة سمعنا بها وعرفناها فيا ترى كم من المآسي من هذا النوع تمت في صمت ولم نسمع بها .. ما دام الناس في إعراض عن الحياة وفق الشريعة وآدابها .. فلا شك أن هناك الكثير من هذا النوع .. وما خفي كان أعظم. (24)
قلت:
1- دعاء البنت على أبيها فيه سوء أدب مع الوالدين، ينبغي أن تترفع عنه الفتاة المسلمة، وإن ظلمها أبوها .. وإنما ذكرت هذا الموقف .. على ما فيه تحذيراً للآباء والأمهات من إعضال بناتهم.
2- إن العنوسة ابتلاء من الله، ينبغي للمرأة أن تصبر وتحتسب له، وأن ترضى بما كتب الله لها: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"(25) فاختيار الله للعبد خير من اختياره لنفسه.
3- وفي القصة درس مهم وهو لزوم التنبيه والتحذير من السلبية الاجتماعية، والتهاون في المناصحة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا شك أن هذا الأب له أقرباء وأصدقاء وجيران فلم ينصحوه؟ وإذا نصحوه فلم ينتصح لِمَ لَم يقاطعوه؟ وإذا قاطعوه فلم يرتدع لم لم يعاقبوه؟ غالب الظن في كثير من هذه الحالات أن هؤلاء يغتابونه وينهشون عرضه بذكر مثالبه في المجالس، دون أن يواجهوه ليصلحوه، لو أن كل مخطئ وجد من ينصحه، ووجد مجتمعاً يلومه ويحاصره لما ركب راسه، وحكم هواه كما فعل هذا الأب الجاني.
عندما يتنازل الرجل عن قوامته
إن قوامة الرجل على المرأة حق تكليفي وتشريفي أيضاً لا مناص منه، ولا يمكن للرجل أن يتنازل عنه ؛ لأن القوامة مسؤولية تنتظم بها شؤون الأسرة، فمن خلالها تحدد المسؤوليات، وتوزع الواجبات، ويعرف كل فرد في الأسرة مكانه ودوره.
كما أن لكل سفينة رباناً يقودها فلا بد لكل أسرة قواماً أو قيماً يدبر أمرها ويشرف عليها، وإلا عمت الفوضى وظهر الاضطراب، كما هو واقع الأسر في الدول التي ساوت بين المرأة والرجل في كل شئ.
وقوامة الرجل على أهله ليست قوامة تعسف وتجبر وتكبر؛ بل هي قوامة رحمة وعدالة؛ إذ أن من أهم الواجبات المترتبة على هذه القوامة رعايتهم وتوجيههم وإعفافهم وحمايتهم من كل شر وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر: (يأيها الذين ءآمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً).(26)
وكم هو مزر أن تضعف قوامة الرجل على أهل بيته إلى درجة أنه لا يستطيع أمرهم بمعروف ونهيهم عن منكر، ولكن أسوأ من ذلك أن يتنازل هو عن قوامته.
ولقد رأيت صوراً مزرية عديدة تدل على المفاسد العظيمة الناتجة من ضعف قوامة الرجل أو تلاشيها، ولعلي أنقل هاتين الصورتين - على سبيل المثال– واللتين تعكسان شيئاً من هذه المفاسد:
دخلت الزوجة محلاً لبيع "الحلويات" وتبعها زوجها .. كشفت الزوجة شيئاً من حجابها وكأنها دخلت بيتها ... فما حرك الزوج شفتيه بكلمة يأمرها بالاحتشام والاحتجاب؛ بل ظل واقفاً خلفها يحمل طفلاً ويمسك بيده الأخرى طفلاً آخر.. أخذت الزوجة تجادل البائع في سعر البضاعة وتماكسه .. فارتفعت منها قهقهة لفتت أنظار الرجال الذين اكتظ بهم المحل، والزوج "المصون" قد وقف خلفها كأن الأمر لا يعنيه ... وبعد جدال طويل بينها وبين البائع اقتنعت أخيراً بالسعر فاشترت البضاعة .. وذهبت لكي تحاسب ..أخرجت من حقيبتها أوراقاً نقدية دفعتها للمحاسب وخرجت .. والزوج يتبعها.
أما الصورة الثانية فتبدأ عند باب المنزل حيث خرجت تاركة زوجها في فراشه نائماً فقد تأخرت عن موعدها، وكان السائق في انتظارها عند الباب.
الزوجة للسائق: إلى السوق بسرعة ... أدار السائق مفتاح السيارة واتجه حيث أمرته سيدته .. وقبيل المغرب استيقظ الزوج من نومه فنادى الخادمة قائلاً: سيري أين "ماما"؟ فأجابت سيري "ماما يروح للسوق".
لبس الزوج ملابسه دون اكتراث لخروج زوجته دون إذنه وعلمه، فقد اعتاد على ذلك ؛ بل هو الذي عودها عليه يوم أن تنازل عن حقه في قوامته عليها..
إنه ينبغي للرجل والمرأة أن لا يرضيا بهذا الحال، أما الرجل فلأن المرأة عرضه وشرفه فأين دينه؟ وأين رجولته وشهامته؟ وقد ترك لزوجته الحبل على غاربه، وفتح لها الأبواب التي تصفر فيها رياح الشهوات الآثمة والنزوت الفاجرة.
وأما المرأة فلأن الرجل حاميها وراعيها، فأين محبته لها؟ وغيرته عليها؟ وأين اهتمامه بها؟ وأين دفاعه عنها؟ وقد تركها تكشف زينتها للرجال، وتضاحكهم وتمازحهم، كأنه لا يعنيه أمرها، ولا يهمه حفظها.