كونوا أعوانا في الخير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران: 102
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} النساء: 1
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} الأحزاب: 70-71
أما بعد [1]:
فقد جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} المائدة: 2
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (الإعانة هي: الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين، بكل قول يبعث عليها، وبكل فعل كذلك)
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} فقال: هو أن تعمل به وتدعو إليه وتعين فيه وتدل عليه. (حلية الأولياء 7 /284)
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى...} الآية:
(اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم) (زاد المهاجر 6-7).
ثم بيّن أهمية التعاون على البر والتقوى وأنه من مقاصد اجتماع الناس فقال: "والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا، فإن العبد وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه. (زاد المهاجر 13)
فالإنسان ضعيف بوصفه فردا، قوي باجتماعه مع الآخرين، وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتما إلى التعاون مع غيره في أي مجال، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم على البرّ والتقوى.
ومن القواعد المؤكّدة في التعاون:
أن المعاونة على البرّ: برّ. قال البيهقي - رحمه الله -: (لأنه إذا عدمت [المعاونة] مع وجود الحاجة إليه لم يوجد البر وإذا أوجدت وجد البر؛ فبان بأنها في نفسها بر) (شعب الإيمان 6/101)
أيها المسلمون، التعاون بين البشر من فطرة الله التي فطر الناس عليها، يقول ابن خلدون رحمه الله:
(قد عُرف وَثَبَت أن الواحد من البشر غيرُ مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وأنهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك، والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا... فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم). (المقدمة: 1/ 360)
أخي المسلم، أرأيت لو كُنتَ أنت مَن يصنع الطعام، بل ومن يزرعه، وكنتَ أنت من يصنع سيارتك، ويبني البيت الذي تسكن فيه، ويجتلب الماء من موارده ومنابعه... هل يمكن أن يكون أحدٌ من البشر مستقلٌ بكل هذه المنافع بنفسه، وبدون معونةٍ من غيره؟!.
ولذلك فإن توزيع المهمات لإنجاز العمل الواحد من التعاون المطلوب، الذي لا يمكن أن يستقر أو يطيبَ العيشُ إلا به.
أحبتي في الله، إن هذه الحقيقة الكونية عامةٌ: في الأمور الدينية والدنيوية، فأما بالنسبة للتعاون الشّرعي فإن الأسباب الدافعة لدى المسلم للتعاون على البرّ والتقوى والمشاركة في الخير كثيرةٌ، ومنها:
- تحصيل ثواب امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}
- زيادة الأجر والمضاعفة: قال ابن القيم رحمه الله: (فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين. وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً)) وشبك بين أصابعه، ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا.
- ومن الأسباب الدافعة للمسلم على التعاون على البر والتقوى: الحاجة: فإنّ كثيرا من الأهداف والمشاريع الإسلامية لا يُمكن تحقيقها فرديا، ولهذا قيل: لا يعجز القوم إذا تعاونوا.
أحبتي في الله، إن التعاون على البر والتقوى يكون بوجوه كثيرة تفوق الحصر، فكل عمل في مرضاة الله يكون التعاون والتظاهر عليه من التعاون على البر والتقوى.. ومن أمثلة ذلك:
أولا: التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين:
ويكون ذلك بنصرة الإسلام وأهله، فقد حرض الله تعالى عباده المؤمنين على نصرة دينه وأوليائه، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة بشتى الوسائل، فقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله} الصف: 14، أي مَنْ يساعدني في الدعوة إلى الله (البداية والنهاية 2/85).
ولهذا ينبغي أن تتعاون مع أخيك المسلم ومع الدعاة إلى الله تعالى في الدعوة إلى الله، ألم تر أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: {سنشد عضدك بأخيك} القصص: 35، وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا)) أي أعاونك وأؤيدك في نشر دعوتك.
ومن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين: الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومشاركة أهل الدعوة المحمدية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال.
ثانيا: التعاون على إقامة العبادات:
ومن أمثلة ذلك:
التعاون على قيام الليل، وقد كان في أوائل هذه الأمة أنَّ أهل البيت الواحد يتوزعون الليل أثلاثا يصلي هذا الثلث ثم يوقظ الثاني وهكذا.
ونقل الخطيب البغدادي حادثة فريدة في تعاون الزوجين على العبادة:
كان أبو شعيب البراثي في كوخ يتعبد فيه، فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من أبناء الدنيا كانت رُبِّيَت في قصور الملوك، فنظرت إلى أبي شعيب فاستحسنت حاله، وما كان عليه... [يعني من العبادة والزهد] فجاءت إليه وقالت: أريد أن أكون لك خادمة، فقال لها: إن أردت ذلك فغَيِّري من هيئتك وتجردي عما أنت فيه، حتى تصلحي لما أردت، فتجردّت عن كل ما تملكه، ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها، فمكثت معه سنين عديدة يتعبدان أحسن عبادة وتوفيا على ذلك متعاونين. (تاريخ بغداد 14/418)، فلنقارن هذا بحالنا مع زوجاتنا !!
ومن التعاون على إقامة العبادات: التعاون في بناء المساجد:
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} التوبة:18.
وقد أورد البخاري في صحيحه باباً في التعاون في بناء المساجد، وسطر فيه أحاديثاً تبين مدى التعاون بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد النبوي. ومن ذلك ما رواه عن أَبِي سَعِيدٍ في ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: ((وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ)) قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ (رواه البخاري 428).
وقام المسلمون يعمرون المساجد في البلاد التي فتحوها، ولا زال لأهل هذه البلد أيدي صالحة في عمارة المساجد بمشارق الأرض ومغاربها، فاللهم أعطِ مُنفِقاً مُعيناً على إظهار دينك خلَفَاً وبركةً في رزقه.
ثالثا: التعاون في مجال طلب العلم:
وهذا باب من التعاون لا يحتاج منا في معرفته إلا أن نطالع كتب السير المليئة بهذا الصِّنف من التعاون، فهذا عمر بن حفص الأشقر يقول كنا مع محمد بن إسماعيل بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أياماً، فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفد ما عنده ولم يبق معه شيء. قال: فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث. (تاريخ بغداد 2 / 13).
رابعاً: التعاون في القيام بحقوق المسلمين:
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)) (مسند الإمام أحمد 15147)
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع، ويدخل ضمنه مجالات متعدده، منها:
إعانة الملهوف:
عن يزيد بن الأسود قال: لقد أدركت أقواما من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هَوِيٍّ أو دجلة نادى يا لعباد الله فيتوثبوا إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه. (شعب الإيمان 6 / 107)
فانظر أخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على ضرورته.
ومن ذلك أيضاً: إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من عدوان المعتدين:
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعاني أنه: كان حسن الأخلاق واسع المروءة رفيع السيادة والفتوة كريم الطباع مفضالاً بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعي في قضاء حوائجهم وعلاج مرضاهم والقيام بمؤونتهم وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحري عليها وإنفاقها في وجوه الخير وعمر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها واعتنى بِدَرَسَةِ القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبا معلوما خصوصا في شهر رمضان.. (البدر الطالع 2 /192)
ومنه التعاون في مواجهة شدائد العَيْش:
ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)) (صحيح البخاري 2306)، قَوْلُهُ: (إِذَا أَرْمَلُوا) أَيْ: فَنِيَ زَادهمْ.
أيها الإخوة في الله، إنَّ صور التعاون على البرّ والتقوى كثيرة جداً لا يُمكن حصرها، ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جداً. فاللهم اجعلنا بالحق قائمين، وقائلين، وعليه متعاونين متعاضدين، واجعلنا من عبادك الصالحين، مفاتيح للخير مغاليق للشر، يا رب العالمين.
الضرب الثاني من ضروب التعاون: التعاون على الإثم والعدوان:
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم، ومن ذلك:
- التعاون على إقامة الشرك والكفر:
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة على بناء كنائس النصارى، وهو أمرٌ ظاهرُ الحرمة لا يجوز لمسلمٍ أن يرضاه فضلاً عن أن يُساهم به، أو يعاون على إتمامه.
- ومن التعاون على الإثم والعدوان: الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام.
- ومنه كذلك: التعاون على إحياء البدع وإقامتها: كالمشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت سنة إلا أميتت بدعة.
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس، وبتكليف الناس ما لا يحل، وما لا يطيقون.
- المعاونة على المنكر عموماً، وهو باب زيَّنته، وأعانت عليه الشياطين، ووسائل التقنية الحديثة، فاحذر يا عبد الله، من ذنبك مرة، واحذر من ذنوب الآخرين أن تُحمل عليك ألف مرة، فإن السعيد مَن ماتت ذنوبه بموته، وإن التعيس من إذا مات جرى عليه من عمله السيِّئ بعد موته ذنوبٌ وذنوب، والله المستعان.
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى التاركين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.