(3)
الخُطْبَةُ والخِطْبَة
الخُطبة بضم الخاء، هي ما يقولُه خَطيبٌ ما للناس، وغالباً ما تُلقى من مكان عالٍ يُشرف منه الخطيبُ على السامعين، والخِطبة بكسر الخاء، هي ما يقال لدى طلب فتاة ما من وليها لتكون زوجة لرجل ما.
والشرع والعقل يدعوان إلى قصر المدة فيهما، ولنبدأ بالخُطبة بضم الخاء.
فالخطيبُ حين يُحسن تحضيرَ خطبته وتلخيصَها، ويختارُهَا ذات موضوع واحد، يعرض أفكاره المهمة وشواهده المقنعة ودلائله الساطعة، فإن ثلث ساعة تكفيه، ولا بأس أن تصل إلى نصف ساعة، فإن زادت تململت الخاصة وضاعتِ العامَّة، والقرآن الكريم من وجوه إعجازه إيجازه، وكل آية فيه دليل على ذلك، وأضرب لذلك مثلاً واحداً من سورة القصص:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]
فهذه آيةٌ واحدة لخَّصت حياة سيدنا موسى عليه السلام من ولادته إلى رسالته، فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان.
ولقد أفاد الرسول من ذلك، وأوتي جوامعَ الكَلِم، وكان يُعطي المعنى الكثير في اللفظ القصير، وحسبك حديثان هما: «إنما الأعمالُ بالنيات»( ) و«لا ضررَ ولا ضِرار»( ). فإنهما يشتملان على معان كثيرة، يُكتب فيها صفحات لمن تدبَّر وعقلَ.
وقال : «مَنْ أَمَّ في الناس فليخفف، فإن فيهم المريضَ والضعيفَ وذا الحاجة»( ).
وكان إذا خطب استطاع السامعُ أن يُحصيَ المعاني ويعدَّ الكلمات؛ لأنه يخطب بهدوء، ويُوجز الخطاب. والصَّحابةُ الكرام سَلكوا هذا السبيلَ، فقد قال أحدهم: الكلامُ كالدواء، إن أقْللت منه نفعَ، وإنْ أكثرتَ منه صَرَعَ.
وقال بعضُهم: البلاغةُ في قِلَّةِ الكَلامِ مع الإصابة، لأنَّ الكلامَ إذا كَثُرَ اختلَّ، وإذا اختلَّ اعتلَّ، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ، ولم يُطِلْ فيُمِلَّ.
وأبلغُ الكلام ما حسن إيجازه وكثر إعجازه، وتساوت صدوره وأعجازه، ترضاه الخاصة وتفهمه العامة.
ورأس الخطابة الطبع، وعمودُها الدربة (التمرين والممارسة)، وجناحَاها الشواهدُ الصحيحة المنتقاة، وزينتها الإعراب والإفصاح، وبهاؤها تخيُّر الألفاظ الجميلة للمعاني الجليلة، ومحبتها وقبولها مقرونان بالإيجاز والتخفيف.
والمسلمون قديماً وحديثاً يرغبون بذلك، فقد روتْ كتبُ الأدب والتراجم: أن الحجَّاجَ خطبَ في الناس يومَ الجمعة مرة فأطالَ، فقالَ له أحد الحاضرين: إن الله لا يعذرك، وإن الوقتَ لا ينتظرك. فأمرَ بحبسه وعقوبته، فادَّعى أهلُه أنه مجنون، فقال الحجَّاج: إن أقرَّ بجنونه عفوتُ عنه، فلمَّا طلبَ منه أهلُه ذلك أجابَ: والله لا أزعم أنَّ اللهَ ابتلاني وقد وهبني العقلَ السليمَ وعافاني.
فلمَّا علمَ الحجَّاجُ بذلك أُعجبَ بجرأته وشجاعته وفصاحته، فعفا عنه وأكرمه.
كما كان الأمراء يتبارون في إيجاز واختصار ما يكتبونه في رسائلهم لعمّالهم أو أعدائهم، وهو ما يُسمَّى: «التوقيعات». من ذلك أنَّ أميراً شكوا له أحد عمَّاله، فكتبَ إليه يقول: «كَثُرَ شاكُوك، وقلَّ شاكروك، فإما عدلتَ، وإما اعتزلتَ».
ولقمانُ الحكيم ينصحُ ولدَه فيقولُ: «يا بني! إن من الكلام ما هو أقسى من الحجر، وأنفذ من الإبر، وأمرّ من الصبر، وأحرّ من الجمر، وإن القلوبَ مزارع، فازرع فيها الكلمة الطيبة، فإن لم تنبتْ كلها نبتَ بعضُها».
وفي هذه النصيحة درسٌ لكلّ خطيب أو معلم أو موجِّه أو مربّ.
أما الخِطبة بكسر الخاء، فتدعونا إلى تقسيم الأمر إلى فترتين: ما قبل العقد، وما بعدَ العقد.
والخاطبُ قبل عقد الزواج لا يجوزُ له أن يرى منها إلا وجههَا وكفَّيْهَا بنيّة خطبتها، وهو نموذج كاف عنها. فجمالُ الوجه ينبئُ عن جمال الجسم، وصِحَّة اليدين تنبئُ عن صحة الجسم، وأمُّه أو مَنْ تبحثُ له عن زوجة تَرى منها أكثر من ذلك، فتنصحه بالإقدام أو الإحجام.
وقد قال : «انظرْ إليها لعلَّه أن يُؤدَم بينَكُمَا»( ).
وقوله: «إليها» مجاز، أطلقَ الكلَّ وأراد البعضَ، أي: انظر إلى وجهها وكفيها، فإن حصلَ بين الخاطب والمخطوبة مودة وتآلف وقبول، أقدما على عقد الزواج، وإلا أحجمَا.
ولا أنصحُ بإطالة هذه الفترة إن حصلَ القَبول من الطرفين، لأن الخلوة بينَ الخاطب ومخطوبته غير جائزة.
وكثيراً ما يُفرط أهلُ الفتاة في هذا الأمر فيندمون، إذ قد يحصل شيء من النفور، أوْ يُغيِّرُ أحدُ الزوجين رأيه أو كلاهما فلا يتم العقد، فيسيء هذا إلى سمعتها أكثر مما يُسيء إلى سمعته:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229]
فإذا تمَّ الاتفاقُ وعُقدَ زواجُهما فلا أنصحُ بإطالة الفترة أيضاً، والأولى الإسراع بالزفاف، وإلا كثرت المشكلات والأقاويل والافتراءات والنقد والتجريح، ولاسيما على لسان النساء اللواتي لا يخفنَ اللهَ تعالى، فيجدنَ في إطالة هذه الفترة مرتعاً خصباً للإفساد بين الزوجين لئلا يتمَّ الأمرُ، وكثيراً ما يُسبِّبْنَ فسخَ العقد، فيحدث الإضرار بالزوجين أو بأحدهما، وربما أدَّى ذلك إلا ما لا تُحمدُ عقباه مما قد يصل إلى حدِّ الجريمة، ولو سألتَ القضاةَ والمحامين لحدَّثوك عن ذلك بالعجب العُجاب.
وما أصعب أن ينهارَ عشُّ الزوجية بعد أن تألَّفت القلوبُ، وعظمت الآمال، وطالَ الانتظار.
ويُؤسفني كما يُؤلمني أن أقول: إن للمرأة التي لم تستقم على أوامر الشرع دوراً خطيراً، وشراً مُستطيراً في تدمير كيان الأسر، نكاية أو حسداً أو كيداً:
ولا تحسبن هنداً لها المكرُ وحدَها
سجيّة نفس كلُّ غانية هندُ
وإن تعجب فعجبٌ أن يتخلَّى الرجالُ عن القوامة والرأي الفيصل في قضايا الأسرة الخطيرة، كالمهر والصلح والنفقة، والرجال قوَّامُون على النساء، وأن تُترك هذه الأمور للنساء اللواتي يتأثرن بالعاطفة، ويحببن التقليد، ويعشقن الظواهر ومُوجبات المدح والثناء، ويفضلن المبالغةَ في كل الأمور، فكثيراً ما يقع الفِراق بين الأزواج لأسباب سخيفة هي أثر من آثار ذلك.
وإذا تدخلتَ لتصلحَ بين الزوجين الشابين، رأيتَ المرجعَ في القضية أم الشاب الزوج وأم الشابة الزوجة، وليس لوالديْهما رأي يُطاع، ويحسنُ أن نشيرَ هنا إلى أن الله تعالى ذكرَ في سورة القَصَص على لسان سيدنا شُعيب عليهما السلام، واتّفقا على المهر، قال لعمه:
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص: 28]
أي: أريد أن يبقى الأمر بيد الرجال، وأن لا تتدخل في تحديد المهر النساء خشية أن يطالبن بأكثر مما يُرهقه، فيعدل عن الزواج.
ولقد استبشرَ موسى عليه السلام حينَ سمعَ من عمه:
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص: 27]
فاحرصوا أيها الرجال على القِوامة والقول الفيصل في أسرتِكم، ولاسيما في هذه الأمور، فهو خير لكم ولأزواجكم وأولادكم.
ولا تسمحوا أن تطولَ فترة الخِطبة بعد عقد الزواج أكثر من أربعة أشهر، وهي المدة التي تصبرُ فيها الزوجة على غياب زوجها، منعاً للفتنة والمشكلات والافتراءات، وحفاظاً على بقاء الزوجية، فَدرهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطار علاج.
وأنصحُ أن يسكنَ الشابُّ الزوجُ في بيتٍ وحده مع زوجه ولو صغرَ، لا في بيت أهله ولو كبر إن أمكنه ذلك، على أن يبرَّ أهله، ويزورَهم، ويتفقَّد أحوالَهم، ويقضي حاجاتهم، ويحرصَ على رضاهم في الحق والمعروف، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «مُروا الأقاربَ أن يتزاوروا وأن لا يتجاوروا».
فطوبى لمن ادَّكَر واعتبرَ.