(6)
كتابة الدين واجبة
حفظاً للحقوق، وصيانة للأموال
ما أكثرَ ما تضيعُ الحقوقُ في المحاكم، وما أكثر ما يُظلم الدائن لأسباب كثيرة، من أهمها في نظري: ثقة الدائن في المدين التي غالباً ما تكون في غير محلها، واكتفاؤه منه بالوعد بالوفاء للدَّيْن من أجله دون أن يسجلَ ذلك في عقد موثوق يوقِّع عليه المدين وشاهدان عدلان، يسجل فيه مقدار الدَّيْن بوضوح، ويذكر الأجل المسمى الذي يجب عنده أداء الدَّين من المدين إلى الدائن.
وما ضاع حق، ولا انتشرت مظلمة، ولا ندم أحد إلا إثر إهمال الناس لأحكام الله تعالى في شريعته الغراء (الإسلام) والبعد عن منهجه:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1]
ففي أواخر سورة البقرة آية تُسمَّى آية المداينة، بيَّنت حكمَ الله تعالى في الدَّيْن مطلعها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأمر بكتابة الدين يدلُّ على الاستحباب والأولى، لا على الوجوب، لقوله تعالى في آية الرهن:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283]
وذهبَ قليلٌ منهم إلى أن كتابة الدين واجبة دون أن يستدلوا على رأيهم بما يكفي أو يقنع، والذي أراه أن حكم كتابة الدين هو الوجوب لا الاستحباب؛ لعدة أسباب:
1- الآية هي أطول آية في كتاب الله تعالى، وطولها دليل الاهتمام بما فيها، وشدة الاهتمام تنصرف لأمر واجب لا مستحب.
2- كثرة الأوامر فيها بالكتابة للدين:
فاكتبوه.... وليكتبْ بينكم كاتب بالعدل... فليكتبْ... وليُمْلِل.. مما يصرفُها إلى الوجوب، ولا قرينة قاطعة تصرفها عنه.
3- استعمال «إذا» في أوائل الآية، وهي تفيد تحقيق ما بعدها مثل:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]
وقد تحقق ولم يقل إن تداينتم، و«إن» أضعف من «إذا» في هذا المجال. وفي قول الفقهاء بفرضية ردِّ السلام في قوله تعالى في سورة النساء:
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86]
دليل على وجوب كتابة الدين في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]
ولا فرق بين الآيتين من حيث الصيغة والمدلول.
فيجب أن يتفقا في وجوب وفرضية جواب إذا، وهو «فحيُّوا» و«فاكتبُوه».
4- النهي عن ترك الكتابة قلَّ الدينُ أو كثرُ:
وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ
وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ [البقرة: 282]
والنهي يقتضي التحريم إلا بقرينة تصرفه عنه، ولا قرينة هنا.
5- وصف الكتابة أنها أقسط وأعدل وأبعد عن الشك، وأدل على صدق الشهادة:
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة: 282]
وما حقق العدل وكان سبباً لحماية الحقوق فهو واجب.
6- الأمر بالإشهاد، ونهي الشهود عن ترك الشهادة:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282]
وضمان مصلحة الشاهد المادية والمعنوية فلا يغرم ولا يتهم إن صدق في شهادته:
وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282]
7- أمر المدين أن يُملي على الكاتب، لأنه إن أملى فهو مقر، والإقرار أقوى من الادعاء فيما لو أملى الدائن، وفي ذلك احتياط لضمان حق الدائن، وهذا الحرص على ضمان الحق يدعم الوجوب:
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة: 282]
8- لم يوجب الكتابة في التجارة الحاضرة التي يأخذُ منها المشتري البضاعة ويدفعُ للبائع ثمنها، وكلٌّ وصلَ إلى حقه، وقال في مثل ذلك:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة: 282]
والجناح هو الإثم، ورفع الإثم هنا يدلُّ بمفهوم المخالفة على وجود الإثم في الدين إن لم يكتب، ولا يأثم المرء إلا بترك واجب، أو فعل محظور.
والكتابة للديون واجبة، وترك الكتابة إثم ومحظور، كما رأيت في آيات النهي عن ترك الكتابة.
9- على أنَّ الله تعالى آثر الإشهاد في البيع والشراء، ولو خلا من الكتابة ما دامت تجارة حاضرة وصل كل من البائع والمشتري فيها إلى حقه، ضماناً للمستقبل وتجنباً لخلاف متوقع، فكيف بالدين حيث لا عوض هنا ولا ضمان إلا بالكتابة والشهود؟
10- ضمان حق أولاد الدّائن، فإذا مات المدين ولا دليل على الدين فمن يوصلهم إلى إرثهم من أبيهم إن كان ديناً لم يكتب ولم يوثق؟ لاسيما إذا لم يُوص المدين بدفعه، ولم يذكره في دفاتره، أو ذكره، والورثة للمدين لا يخافون الله، فهم يخفون كلَّ دليل لديهم وينكرون حق ورثة الدائن، وتضيع الحقوق من تفريط الدائن وإهماله لكتابة الدين وتوثيقه، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنك أن تذرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». والدائن المفرط يظلم ورثته ويتركهم عالة يحتاجون الناس، ولو احتاط وامتثل أمر الله، وكتب الدين، ووثقه على المدين، وتركَ دليلاً بيد ورثته لترَكهم أغنياءَ لهم يد عليا تعطي ولا تأخذ.
وأكثر ما ينصحُ به المحامون والقضاة كتابة الديون والحقوق، وتوثيق العقود، ويخبرونك أن أكثر الحقوق التي تضيع هي التي لم تُكتب ولم توثق بعقد تتوفر فيه شروطه، وإذا كانت الكتابة وجبت في عصر كانت تصعبُ فيه، فلا عذر لنا اليوم والكتابة ميسورة.
وألفتُ النظر هنا إلى وجوب كتابة عقد الزواج في المحاكم الشرعية الرسمية؛ لضمان حق الزوجين في المهر إن حصل طلاق و الإرث إن حصلت وفاة، وإذا اضطروا إلى كتابته خارج المحكمة لعذر قاهر، فليوثق على أوراق يوقع عليها الزوج والزوجة ووليها والشاهدان، ويكتب فيها كل شيء واضحاً، ويوضع عند كل من الزوجين صورة للعقد، أما الاكتفاء بإجراء العقد شفوياً دون كتابته، فهو جهل وتفريط وإضاعة لحقوق كل من الزوجين إن حصلَ خلاف أو خصام أو طلاق، وكان الزوجان أو أحدهما ممن لا يرعى عهداً ولا إلاًّ ولا ذمة.
وعدم كتابة الزواج أو الدين يسمح للفاسدين والضالين والظالمين والمستغلين أن يظلموا ويرتعوا في مرتع وخم دون عقاب، أما ما احتجَّ به الذين ذهبوا إلى استحباب كتابة الدين لا إلى وجوبها من قوله تعالى:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283]
فذلك في آية الرهن لا في آية المداينة، وهذه ملحوظة مهمة.
أي: إن كنتم على سفر وتعسَّرَ وجود كاتب يكتب الدينَ، ولم يُوجد مع المدين عين يدفعها للدائن كرهن يستوثق بها دينه، فنحن أمام ضرورة ملحة، مدين محتاج في سفر لا يملك رهناً يضعُه عند الدائن، فلا حرجَ أن يحصلَ دينٌ بلا كتابة، أما إن تيسرت الكتابة كما في الحضر أو في سفر مريح أو رهن يقبض، فلا بد من الكتابة أو الرهن الذي يعادل الكتابة في طمأنينة الدائن أن حقَّه مصون لن يضيع، وقوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283]
أي: إن تيسر الرهن، ويأمر بقبض الرهن قبل تسليم الدين منعاً للخصومة.
وقوله تعالى في الصوم:
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]
كلتا الآيتين فيها شرط: (إن) و(من)، وجوابه مقترن بالفاء، والتقدير فالواجب رهان مقبوضة، والواجب صيام عدة من أيام أخر، فالصيغة فيهما والمدلول واحد، فيجب أن يتفقا في وجوب الجواب إلا إن تعذر، فلم يوجد رهن ولم تتيسر كتابة، فيصار إلى الرخصة:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283]
والصائم إن لم يتيسر له القضاء لامتداد مرضه أو تحوّله إلى مرض مزمن أو موته قبل القضاء، فيصار إلى الفدية، وهي إطعام مسكين عن كلِّ يوم أفطره لعذر مشروع من مرض أو سفر أو...
ولذا فقد ذكرَ تعالى في آية الرهن:
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283]
وذكر في آية المداينة قبلها:
وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282]
ولكل آية منهما غرض معين بحيث لا تغني إحداهما عن الأخرى، ففي آية المداينة الشاهد معروف لدى الدائن والشاهدين والقاضي، وعليه أن يبادرَ عند الضرورة للإدلاء بشهادته، فإذا امتنع فسيدعى ليحضر، ولو قسراً، ليشهدَ ويصلَ الحقُّ إلى أصحابه.
أما في آية الرهن فالشاهد غير معروف، فقد يكتم شهادته إن كان لا يخاف الله أو تبرَّم من النُّزول إلى المحكمة، وصورتها: أنّ المدين الذي استدان عند عدم توفر الكاتب والرهن ووثقَ به الدائنُ وأمنَه، قد يقرّ أمام أي شخص قريب أو غريب بأنه استدانَ من فلان مالاً دون كتابة أو شهود للضرورة، فكل من سمع منه ذلك صارَ شاهداً، لأن الإقرار من البالغ العاقل حجة قوية، فإذا أنكر المدين الدين فعلى هذا الشاهد السامع لإقرار المدين أن يُبادر إلى القاضي ويشهد بالحق لئلا يضيعَ حق الدائن، فإذا كتم شهادته كان آثماً وظالماً.
وهذا ما يدعم وجوبَ كتابة الدين عند توفر الكاتب والشاهدين، وأن آية:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283]
هي للرخصة والضرورة عند عدم توفر الكتابة مع الإشهاد أو الرهن، فليحرص كل ذي حق أن يوثق حقه بالكتابة والشهود أو الرهن إن أمكنه، وهو متوفر اليوم، ولا عذر لمفرط أو جاهل، ولله در مَنْ قال:
أَنِلْني بالذي اسْتَقْرضْتَ خَطّاً
وأَشْهِدْ مَعْشَراً قَدْ شاهَدُوهُ
فإِنَّ اللهَ خَلاَّقَ البَرَايَا
عَنَتْ لِجَلالِ هَيْبَتِهِ الوجُوهُ
يَقُولُ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ