(7)
حرمة الدِّماء
وإزهاق النُّفُوس
الإنسانُ صنعةُ الخالق العظيم، أبدعه بقدرته وسوّاه بحكمته، واختصّه بكثير من آلائه ونعمائه، فلابد أن يكونَ الإنسانُ ملكاً خالصاً لله، لا يتصرف فيه سواه.
يحكم عليه بالبقاء أو الفناء، ضمن شريعة وحدود وقيود، وضعَها سبحانه لمصلحة العباد كافة.
فمن سيطرَ على الإنسان بغير حق، أو ظلمَه فقد أغضبَ الله، واستحقَّ عقابَه.
وكيان الإنسانية يتزعزع ويتزلزل، وأساسه يتضعضعُ ويتخلخلُ حين يغري الشيطانُ الرجيم الإنسان ليعتديَ على أخيه الإنسان ظلماً وقهراً، فتزهق الأرواح البريئة، وتراق الدماء الزكية المعصومة، فتقع الطامَّة الكبرى والنكبة العظمى.
وقد وردَ في الأثر: «الإنسان بناءُ الله، ملعونٌ من هدمَه، وويلٌ لمن هدمَه».
ونفس الإنسان ليست مُلْكاً لَهُ أيضاً، بل هبة من الله تعالى يستخدمها الإنسان لتحقيق الخلافة في الأرض، بأن يعمرَها بالإيمان والتوحيد والحق ومكارم الأخلاق ورفيع الأذواق في إطار الإخلاص والوفاق، وتجنب الشقاق والنفاق، فيعيش حياته في ساحة ما يرضي الله إلى أن يوافيه الموت، فيلقى الله وهو عنه راض.
ومن ثم حرَّم أن يعتديَ على نفسه بإهلاك أو إتلاف أو انتحار، قال تعالى:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]
وقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (سورة النساء: من الآية 29)
وقال الرسول : «مَنْ تردَّى من جبل فقتلَ نفسَه فهو في نارِ جهنَّمَ يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً فيها أبداً»( ). ويقاس على ذلك كلّ وسيلة يستخدمها الإنسان ينتحر بها ليقتل نفسه.
كما أكد الإسلام على حرمة دم الإنسان وعرضه وماله، ودعا إلى الحفاظ على ذلك في دائرة العطف والحب والرحمة.
والأحاديث في ذلك كثيرة، حسبنا منها قوله:
«كل المسلم على المسلم حرام، دمُه ومالُه وعِرْضُه»( ).
«لا يزالُ العبدُ في فسحةٍ من دينِه ما لم يُصبْ دماً حراماً»( ).
«لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل مُسلم»( ).
«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقَاتلُ والمقتولُ في النَّار» قالوا: هذا القاتلُ فما بالُ المقتولُ؟ قال: «إنَّه كانَ حريصاً على قتلِ صَاحبه»( ).
ولا شك أن للنية أثراً بالغاً في العقاب أو الثواب، ولقد كان الاعتداء على النفوس والدماء أول جريمة شنعاء ارتُكِبَتْ في الأرض بينَ بني آدمَ عليه السلام.
والقرآن الكريم حدّثنا عن ذلك في سورة المائدة، حيث ذكرَ قصة ابني آدم، وكيف قتلَ أحدُهما أخاه حسداً وعدواناً، ثم بيَّن أن كلَّ جريمةٍ لابد أن يعقبَها خسارةٌ وندامةٌ، حيث لا ينفعُ الندم، فقال في ذلك عن القاتل:
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 30]
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31]
ولقد ذكرَ الله تعالى في سورة الفرقان أنّ من أهم صِفات عباده الذين يرجونَ رحمته، ويخشون عذابه:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68]
ثم هدَّد من يقوم بمثل ذلك ولو مرةً واحدةً بالخلود في جهنم إن لم يتداركْ أمرَه بتوبة نصوح، واستقامة عاجلة، والتزام جَادَّةِ الإيمان قولاً وعملاً.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 68-70]
وإنَّما قالَ: ومَنْ يفعلْ ذلك، ولم يقل: ومَنْ يعملْ ذلك، ليشيرَ إلى أن المصيرَ الوخيمَ، والعقابَ الأليمَ، ينتظرُ من يقوم بذلك ولو مرة واحدة، ولو قال ومَنْ يعملْ ذلك لكانَ التَّهديدُ متوجهاً لمن يتخذُ ذلك حرفة أو يُكرِّرُ ذلك، وهذا من بعض الفروق بين لفظي فعلَ وعَمِلَ.
فتأمَّلْ تفلح وتكنْ من المهتدين، ذلكَ لأنَّ أهم ما عَندَ الإنسان العاقل المتزن السوي عقيدته وروحه وعرضه. وهي أولى ما يجبُ الحفاظ عليه:
أصونُ عِرْضي بمالي لا أُدَنِّسُهُ
لا باركَ الله بعد العَرض بالمالِ
ولله در من قال:
اعلم بأنَّ مِنَ الرِّجالِ بهيمةً
في صُورة الرَّجُل السَّميع المُبصِرِ
فطنٌ بكلِّ مصيبةٍ في مالِه
وإذا أصيبَ بعِرْضهِ لم يَشْعُرِ
ولا يقعُ من المؤمن قتل لمؤمن إلا خطأ، ويجب عليه في ذلك دية لأهل القتيل، وكفارة لله أن يصوم شهرين متتابعين، قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92]
وهو لا يقتله عمداً، فإن فعلَ فمصيرُه إلى الجحيم والعذاب الأليم:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء: 93]
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يستأذنه أحد ولاته في تعذيب مُتَّهم، ليعترفَ، فيجيبه عمر «لا تفعلْ، فوالله لأن يلقوا الله بآثامهم وخياناتهم أهون عليَّ من أن ألقى اللهَ بدمائهم وظلمهم». وقد قال : «أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء»( ). فاحذر القصاصَ إلا في حق وبعد يقين، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وستقرأ كتاباً تلقاه منشوراً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وبعد؛ فماذا يبقى للمسلمين إذا هانت فيهم الأرواح، واستبيحت الدماء، واستعرت بينهم الحروب والفتن، واشتدت الخلافات الهامشية التي لا مبرر لها ولا دليل، وعدوُّهم شامت ساخرٌ يتربَّصُ بهم الدوائر، يعتدي عليهم ويقتل منهم، ويحتلُّ أرضَهم، فلا يهبُّون لنجدة بعضهم، أين هم من قوله : «مثلُ المؤمنين في توادّهم وتَراحُمِهم كَمَثلِ الجسدِ الواحِدِ إذا اشتكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسدِ بالحمَّى والسَّهرِ»( ).
وأين هم من قول الشاعر:
قلْ لأبناءِ يعربَ وَحِّدوا الشملَ
كما وَحَّد النبيُّ الجهودَا
إن أولى الورَى بتوحيدِ شَمْلٍ
أمةٌ كانَ دينُها التوحيدَا
لقد فاض من الدماء الزكية والبريئة ما يخجلُ الإنسان أو يستحي أن يذكرَه فمتى؟ متى تفيضُ دموعُ الحسرة والحَنَان والألفة والقربى والأخوة في العقيدة، والوحدة في الوطن والآمال والآلام والتاريخ والمصالح المشتركة واللغة، لتتصافح الأيدي بعد أن تتصافح منهم القلوب وتغمد السيوف، ويلتئمَ الشمل، ويتوحد الصف، فيرضى الله تعالى، فيتحقق النصر، وترفرف السعادة على الجميع تحت شعار الآية الكريمة:
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]
وأخيراً لعلَّ خيرَ ما نختم به الموضوعَ قوله تعالى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]