(8)
حمايةُ الأمة والشباب
من أخطار الفرقة، والغزو الفكري
أين موقعُ المسلمين اليوم من الكتاب والسنة، وهل ينبغي أن يلتزم الإنسان بمذهب واحد أم لا؟ وماذا نقول لشبابنا الذين غزت أفكارَهم ما جاءَنا من الغرب؟ وكيف نواجه هذا الغزو الفكري؟
أسئلة كثيرة تخطر على النفس، وترد على الفكر، ونفصِّل القول فيها كالآتي:
(1)
o يقول الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه مخاطباً المسلمين: «تركتُ فيمن ما إن تمسَّكتم به لن تَضِلُّوا: كتابَ الله وسنتي»( ) أين موقع المسلمين اليومَ من الكتاب والسنة؟ ومن المسؤول عمّا وصلَ إليه حال المسلمين..؟ الدعاة أم العامة؟.
o لا شكَّ أن في القرآن الكريم والسنة الشريفة غنية وكفاية لكل مجتمع ينشدُ السعادة في الدنيا والآخرة، لأن الإسلام الحنيف فتحَ العقولَ لكل علم نافع وخير، وجلبَ للناس المصالحَ ودرأ عنهم المفاسدَ، وفتحَ بابَ الاجتهاد في الأمور التي لم يرد فيها نصٌّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة بشروط الاجتهاد المعروفة، وذلك عن طريق الاجتهاد الفردي (المذهبي) أو الجماعي، وهو ما يسمى: (الإجماع) وهذا بعضٌ من سرِّ عظمة هذا الدين الذي يصلح لكلِّ زمان ومكان. أما موقع المسلمين اليوم من الكتاب والسُّنة فيؤسفني أن أقول: إنه لا يرضي، فلقد آثروا عليهما القوانينَ الوضعية التي هي من وضع البشر، وحَصَرُوا الدين في مجال القضاء في قوانين (الأحوال الشخصية) أي: فيما يتعلَّق بأحوال الأسرة... بدءاً ووسطاً ونهاية. وهذا سبب رئيس في كثيرة مما تُعانيه المجتمعات الإسلامية وغيرها من اضطراب ومشكلات ومعضلات وأزمات في حياتهم الاجتماعية وغيرها:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1]
والمسؤولية في ذلك تقعُ على كل فرد من أفراد الأمة، أما الدعاة فمسؤوليتهم كبيرة، ولا يمكن أن ينجحوا في مجال الدعوة إلا إذا توفرت لديهم الشروط التالية:
1- القدوة الصالحة والأسوة الحسنة.
2- الصدق في القول والعمل والرحمة في المعاملة مع التسامح.
3- العلم الغزير والاطلاع الواسع في شتى العلوم الشرعية، والاجتماعية، وغيرها.
4- الصبر والمصابرة.
5- الحلم، وتجنب الغضب والتشنج.
6- الحكمة، وذلك بوضع الشيء في موضعه المناسب، ومخاطبة كل فئة أو فرد بما يليق ويناسب.
7- الإخلاص لله في الدعوة سعياً وراء ثوابه، لا وراء الدنيا وحطامها.
8- حسن التحضير، وجمال العرض والأداء والإلقاء.
9- اللغة السليمة والأسلوب الأدبي العذب المحبب.
10- الإقناع بالدليل والمنطق السليم والبرهان القاطع والحجة الدامغة... ومن ملك العلم وكان على اقتناع فيما يدعو إليه توفرت لديه وسائل الإقناع.
11- تجنُّب التزمت والجمود والانغلاق والعزلة عن الناس.
12- التفتح على كل جديد نافع للإفادة منه وبناء دعوته على أساس تحريك العقول نحو الأفضل والأحسن في كل شيء، وإثارتها لتفكر وتنتج وتقترح، لا مجرد ملء العقول بمعلومات عليها أن تحفظها وتعيدها كما هي دون نقد أو تفكير أو مناقشة أو تبصر أو استفسار. ولا ينبغي أن ننسى أننا نعيش القرن العشرين قرن الذرة واللاسلكي وارتياد الفضاء والطباعة والتلفزة.
يؤلمني أن أقول: إن أكثر الدعاة ينقصهم كثير مما ذكرت، ولذا فإن تأثيرهم قليل.
والعامة مسؤولون أن يُبادروا إلى المساجد ومجالس العلم، لينهلوا منها، وهم كالأرض العطشى تريد أن ترتوي فإذا وجدت ماء عذباً طاهراً زلالاً تلقفته وارتوت منه، فأثمرت وأينعت وعمَّ خيرها، وإلا ضاع الجهد ولم يرض الحصاد.
(2)
o هل يتوجب على المسلم أن يتقيد تقيداً تاماً بأحد المذاهب الأربعة في تطبيق تعاليم الإسلام؟ وهل هذا التقيد مفيد على المدى البعيد أم أنه يُؤدِّي إلى خلافات في المستقبل؟
o إذا كان المسلم جاهلاً بالأحكام الشرعية، فعليه أن يطلب العلم بها وهذا فرض عليه، فإن قصَّر أو أهمل أثم، ومذهبه حينئذ مذهب من يفتيه ويُجيبه على ما يسأل عنه.
أما المتخصصون بالعلوم الشرعية الذين يستطيعون أن يميزوا بين الأدلة، ويختاروا الأصم والأصوب، فعليهم أن يتبعوا ما يرونه هو الصواب، وأن يختاروا الفاضل على المفضول والراجح على المرجوح، ولا يلزمون بمذهب واحد، ولا يجوز حجر العقول الدارسة الواعية المتخصصة عن أن تعملَ وتميز وتختار، والسادة الفقهاء جزاهم الله عنا كل خير، كانوا يبحثون عن الحق والصواب ما وسعهم، وكان الواحد منهم يقول: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي» ومن اجتهدَ منهم فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحد، ولكن تعصبَ أتباعهم بعد ذلك جرَّ إلى خصومات وخلافات وشذوذات كان لها الأثر لا يرضي ولا يليق، ولا يزال بعض ذلك الأثر قائماً عند الجامدين المتعصبين لمذهب ما، ولو ظهرَ لهم أن الدليل والحق في جانب مذهب آخر في مسألة ما.
وكم آمل لو يجتمع من كل قطر إسلامي أو عربي أفذاذ وعلماء الفقه والعلوم الشرعية، تحت قبة واحدة، في قاعة كبيرة واحدة، ليختاروا لنا من المذاهب الفقهية المشهورة والمعروفة والمجمع على قبولها من الأمة، الأصح، والأصوب، والأكمل، والأفضل، والأنفع، والأصلح في كل مسألة من مسائل الفقه، وهذا الاختيار لن يُخرجنا عن دائرة اتباع هذه المذاهب. لأن الرأي المنتقى سيكون من أحد تلك المذاهب، وأن يُضيفوا إلى ذلك اجتهاداً لكل أمر جديد لم يرد فيه نص، ولم يسبق من الفقهاء الكرام رأي فيه، كالتأمين على الممتلكات وما شابه ذلك، مما كثر في القرن العشرين، ليحملوا المسلمين في شتى أقطارهم على هذا الإجماع فيزول كل خلاف، وتتآلف القلوب وتجتمع العقول والنفوس على رأي ونهج واحد، أشبع دراسة وتمحيصاً وتدقيقاً ودراية ورواية وفهماً.
والمراجع للعلوم الشرعية اليوم تتوفر أكثر من ذي قبل، وقد طبعت طباعة جديدة، بعد أن جرى عليها التحقيق والتدقيق والتصنيف وحسن التوزيع ووضوح الخط وجمال الطباعة وجودة الورق ويسر المطالعة، مما لم يتيسر جزء منه للفقهاء قديماً.
وهذا عمل فيه خير كبير.. وكم يُؤلمني أن يصوم المسلمون أو يفطروا مبتدئين الصوم كل قطر يخالف قطراً أو أقطاراً أخرى حتى يصل الفرق في بداية الصيام أو نهايته إلى ثلاثة أيام، مع أن الرأي الراجح والفاضل والعلمي المنطقي أن يبدؤوا في يوم واحد، وأن ينتهوا كذلك في يوم واحد. وجمع الكلمة واجب، ولاسيما في هذه الأمور، والعلم وأدواته أكبر معين على خدمة الدين في مثل هذا وغيره.
ولا عذرَ للمقصرين اليومَ في جمع الكلمة على خط ورأي ومنهج واحد.
(3)
o تتعرض الأمة الإسلامية اليوم لغزو فكري وحضاري يقصد إلى النيل من شخصيتنا المستقلة. ما الدواء الناجع لرد شبابنا عن تقليد كل ما يأتينا من الغرب على أنه حضارة ورقي؟
o الغزو الفكري والحضاري شطران:
شطر فاسد مفسد واجبٌ علينا أن نجتنبه ونشجبه، ونمنعه ونجنبه أبناءنا وبناتنا وحياتنا. منه ما يتعلَّق بالعقيدة وأكثره يتعلَّق بالأمور الأخلاقية وقضايا المرأة وحريتها ولباسها وتصرفها... ومعضلات لا حصرَ لها.
والشطر الآخر حضاري علمي نافع، وهو ما يتعلق بالعلوم التجريبية، كالطب والهندسة والفلك... فهذا مما يجبُ أن نفيد منه في حدود ما يُرْضي الله تعالى، ويرسخ إيماننا به عز وجل وخشيتنا منه، ويحقق لنا المنعة والقوة والكرامة والسعادة، وحماية الوطن والمقدسات تحت ظلال قوله تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه حديث موقوف بحكم المرفوع:
«لا يكن أحدُكم إِمَّعة إن أحسنَ الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطد نفسه إن أحسنَ الناس أن يحسن وإن أساؤوا أن لا يسيء»( ).
أما حماية شبابنا من خطر الغزو المفسد، فهو بأن نوفر لهم المناعة القوية المجدية الكافية الواعية، التي تحميهم من التأثر بأي فساد أو شبهة، وذلك بتحصينهم بالعقيدة السليمة القائمة على الإقناع والدليل والبرهان، وتزويدهم بالخلق القويم النابع من القدوة العلمية والأبوية الصادقة، وصلاح البيت والمدرسة والمجتمع معاً، وتثقيفهم بالعلم النافع الصحيح الذي يزودهم بما يملكون معه أن يدفعوا كل شبهة، وأن يجيبوا عن كل مسألةٍ وأن يحلوا كل معضلة، بعلم وحكمة، وفهم وروية، وحمايتهم من المتناقضات في مجتمعهم التي تجعلهم فرائس الشكوك والأوهام والعادات المرذولة والأفكار الوافدة الضالة. والله هو المعين حين تصدق النيات وتبذل الجهود.
(4)
o ولعلَّ خير نصيحة أسديها للمسلمين المقيمين في ديار الغربة والمهجر:
1- أن يُقيموا فيها على قدر الضرورة الملحة، لأن الضرورة التي تُبيح المحظور إنما تقدر بقدرها، وأن يسعوا ما وسعهم إلى العودة لديار الإسلام والعروبة، فهم في ديار الغرب والمهجر كنقطة في بحر، تتأثر أكثر مما تؤثر، وتضيع في زحمة تلاطم الأمواج، وبلادهم أحق بهم وأجدر بطاقاتهم وجهودهم.
2- أن يعلموا أنهم يمثلون هناك الإسلام، ويدعون له بأقوالهم وأفعالهم، فعليهم أن يسعوا لهداية من حولهم عن طريق القدوة الصالحة والأسوة الحسنة والسلوك الفاضل، فإن صدقوا أثَّروا وأفادوا، ولأن يهديَ الله على أيديهم شخصاً واحداً خير لهم من الدنيا بما فيها.
والقلوب تتقبل الحق، والنفوس تتعشق الضياء والنور، والأجساد تصحو وتنمو بالعافية، والإسلام كالشمس للنهار، والعافية للأبدان، والغذاء للقلوب والأرواح والأجساد، إذا أحسن عرضه وأخلص الموجهون إليه.
3- أن يعنوا باللغة العربية عناية بالغة بالإضافة إلى دراسة الإسلام دراسة واعية سليمة هم وأولادهم، ففهم اللغة العربية سبيل لفهم الدين فهماً سليماً، وأن ينشئوا لذلك المدارس على اختلاف مراحلها والمعاهد والجامعات إن أمكن.
4- أن يصونوا نساءهم وأولادهم وبناتهم من المزالق، كأماكن الشبهات والمفاسد والاختلاط المشين، وأصدقاء السوء، والمجلة الفاسدة، والفيلم الفاسد، والمسلسل الشارد على شاشة التلفزيون وغيرها. وأن يتجنب شبابهم الزواج من غير المسلمات حفاظاً على عقيدة ومستقبل أولادهم، وأن يتصيدوا وقتاً كافياً لتربية أولادهم.
5- أن يعيشوا حياة الوسطية والاعتدال في المسكن والملبس والمأكل والأثاث والنفقة، وأن يتجنبوا الإسراف والتبذير، وكل شيء يوفرونه عون لهم ولوطنهم وأولادهم في المستقبل.
6- أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن يكون ارتباطهم بالمساجد ومراكز العلم الشرعي والمحاضرات الدينية والعلمية ارتباطاً وثيقاً، وأن يدعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يستقدموا في كل شهر عالماً من كبار أهل العلم والدعوة إلى الله؛ يُوجههم نحو الخير ويُرشدهم نحو الأفضل والأنفع، ويعلمهم ما يجهلون، وينشط فيهم حركة العلم والمحاضرات والمعرفة والاطلاع على ما لم يَعرفوا من قبل، وعليهم أن يبذلوا في سبيل تآلفهم وتحاببهم واجتماعهم على ذلك الغالي والرخيص للحفاظ على شخصيتهم الإسلامية العربية وتراثهم وأصالتهم ودينهم.